قراءة موضوعية في جذور الأزمة ومسارها السياسي
من يقرأ وقائع التاريخ المغاربي منذ ستينيات القرن الماضي بموضوعية وانصاف وعمق، بعيدا عن الصراع الايديولوجي ، يدرك لا محالة أن نزاع الصحراء لم يكن في جوهره صراعًا بين شعبين، بل أزمة مفتعلة هندستها الجزائر منذ استقلالها سنة 1962، في سياق حسابات أيديولوجية وإقليمية ( الحرب الباردة بين معسكرين وتوازن القوى قبل انهيار الاتحاد السوفياتي ) هدفت إلى تحجيم المغرب كقوة ملكية عريقة وإقامة توازن مصطنع في شمال إفريقيا. ، وقد سبق للملك الراحل الحسن الثاني ان اشار الى ذلك موضحا ان مشكل الجزائر لا يختزل في مسألة حدود وانما في توجه ايديولوجي .
وبما اننا من ساكنة منطقة حدودية لها امتداد جغرافي مع الغرب الجزائري لا بد ان نشير إلى مرحلة ما بعد استقلال الجزائر تلك المرحلة التي تحول فيها حلم الوحدة إلى صدمة “حرب الرمال”
فحين استقلت الجزائر سنة 1962، كانت العلاقات المغربية الجزائرية محكومة بتطلعات الوحدة المغاربية، خاصة أن المغرب قدّم دعمًا كبيرًا للثورة الجزائرية من أراضيه ومن مواقفه السياسية، ومدينة وجدة احتضنت قادة الثورة الجزائرية بحزم وانضباط وتضامن لا مشروط بل كل أسرة من الاسر الوجدية تحتفظ للذكرى بمرحلة إيواء الجنود والتكفل بهم و تتذكر قصف الطائرات الفرنسية لمدينة وجدة اذ انه سنة 1961 أي سنة قبل حصول الجزائر على الاستقلال ،قام كوماندو فرنسي بتخريب محطة البت الإذاعي الجهوي لمدينة وجدة الكائنة بطريق سيدي يحيى، كرد فعل وعقاب مدينة وجدة على مساعدتها وإيوائها للمجاهدين آنذاك، الشيء الذي نشر الرعب والذعر في صفوف الساكنة المتضامنة مع المجاهدين الجزائريين وجودا وعدما .
كما أنه بتاريخ 18فبراير 1962 عمدت طائرتان فرنسيتان T6 انطلقتا من قاعدة وهران الواقعة غرب الجزائر والتي لا تبعد عن وجدة سوى بحوالي 220 كلم وقصفتا عبر علو غير مرتفع مقر جبهة التحرير الوطني الكائن بمدينة وجدة، والكل يتذكر هذا القصف الرهيب ووقعه على الساكنة، ولا زالت العائلات الوجدية تتذكر الرعب الذي احدثه الهجوم الفرنسي، كل ذلك كرد فعل وانتقام المستعمر الفرنسي من مدينة وجدة بسبب مدها العون والتضامن مع المجاهدين الأشقاء انذاك والذي كان يعتبر المرحوم الملك محمد الخامس طيب الله ثراه ان استقلال المغرب لن يكتمل الا باستقلال الجزائر
غير أن الرياح لم تجرِ بما تشتهي الشعوب؛ فالنظام الجزائري الناشئ، الذي تبنّى خطابًا جمهوريًا اشتراكيًا متأثرًا بالأيديولوجيا الثورية الناصرية، نظر إلى النظام الملكي المغربي بعين الريبة، ورأى فيه نموذجًا مناقضًا لطموحه الإقليمي اذ كانت الجزائر تطمح دائما إلى الزعامة l’hégémonie
وبذلك تحول الخلاف الحدودي حول منطقتي تندوف وبشار إلى مواجهة عسكرية سنة 1963 في ما عُرف بحرب الرمال لترسخ تلك الحرب شعورًا متبادلًا بعدم الثقة، وتفتح الباب أمام عداءٍ سياسيٍ مستترٍ سيتخذ لاحقًا شكل نزاع مفتعل حول الصحراء.وهذا ما عشناه وعايناه كتلاميذ وطلبة يدرسون بالمدن الجزائرية خاصة مدينة وهران التي تبعد عن وجدة بما يقارب 200كلم فقط
ميلاد البوليساريو فكرة جزائرية بواجهة مغربية
عام 1973، وبينما كانت إسبانيا لا تزال تحتل الصحراء، تأسست جبهة البوليساريو في الأراضي الجزائرية، تحديدًا في تندوف، على يد مجموعة من الطلبة المغاربة ذوي الأصول الصحراوية، أبرزهم الوالي مصطفى الذي درس في الرباط.
تلك النشأة خارج الإقليم المحتل تُضعف من الأساس وصف الجبهة بحركة تحرر وطني، إذ إن معظم حركات التحرر في التاريخ وُلدت في الداخل، لا في أحضان دولة مجاورة تموّلها وتسلحها.
وكشهادة موضوعية للتاريخ لما كنا طلبة وتلاميذ يدرسون في بعض المدن الجزائرية تم الاتصال بنا من اجل اقناعنا بان النظام الملكي هو نظام رجعي وانه لا مجال لحلم مغاربي بانظمة مختلفة وكان يتم الحث على الانضمام إلى مجموعة ستسعى إلى تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب
فالجزائر، التي كانت تبحث عن منفذ إلى المحيط الأطلسي ( وهذا ما صرح به الرئيس السابق هواري بومدين مرتكب جرائم يعاقب عليها نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية ، في احد خطاباته المتمثلة في كون الجزائر تصبو إلى ايجاد ممر إلى المحيط الأطلسي ) وعن وسيلة لإضعاف المغرب، وجدت في الجبهة ورقةً استراتيجية، فتبنّتها سياسيًا وإعلاميًا وعسكريًا، وقدّمتها للعالم تحت شعار تقرير المصير في حين كان الهدف الحقيقي هو اقتطاع جزء من التراب المغربي وإنشاء كيان تابع لها في الجنوب الغربي.
الأدلة التاريخية ( شهادة بعض مؤسسي البوليساريو مثلا السيد المحجوب السالك )على الرعاية الجزائرية
منذ اللحظة الأولى، تكفّلت الجزائر بإيواء الجبهة فوق أراضيها، ومنحتها حرية كاملة في التحرك والتسليح والدعاية.
بل إن معظم اللاجئين الذين نُقلوا إلى مخيمات تندوف جُمِعوا من مناطق مغربية مختلفة تحت ذريعة التهجير المؤقت ليصبحوا لاحقًا أداة سياسية بيد الدولة المحتضنة.
وفي الساحة الدولية، استخدمت الجزائر ثقلها الدبلوماسي والمالي لشراء مواقف بعض الدول الإفريقية واللاتينية من أجل فرض الاعتراف بما يسمى “الجمهورية الصحراوية” سنة 1984 داخل منظمة الوحدة الإفريقية، وهو ما دفع المغرب حينها إلى الانسحاب من المنظمة في موقف سيادي واضح.
الشرعية القانونية قرار محكمة العدل الدولية 1975
لا بد ان نشير ان محكمة العدل الدولية في لاهاي، وفي قرارها الشهير الصادر في 16 أكتوبر 1975، أقرت بوجود روابط تاريخية وروابط بيعة قانونية بين القبائل الصحراوية وسلاطين المغرب.
صحيح أن المحكمة أشارت أيضًا إلى ضرورة احترام مبدأ تقرير المصير، لكنها لم تعتبر الصحراء أرضًا بلا سيادة أو “terra nullius”، ارضا خلاء بل أكدت أن للمغرب حقوقًا تاريخية راسخة في الإقليم وله تماس جغرافي وامتداد لأقاليمه
هذا القرار شكّل الأرضية القانونية التي استند إليها الملك الراحل الحسن الثاني لإطلاق المسيرة الخضراء، الحدث الذي أعاد الصحراء إلى حضن الوطن بطريقة سلمية مبهرة جمعت بين الرمزية الوطنية والشرعية الدولية.
معاناة تندوف من اللجوء إلى الاحتجاز
من المفارقات أن الجبهة التي تزعم الدفاع عن حقوق الصحراويين تحتجز آلاف المدنيين في مخيمات تندوف، دون إحصاء رسمي يخضع لرقابة الأمم المتحدة، في خرقٍ صريحٍ لاتفاقية جنيف لسنة 1951 الخاصة باللاجئين.
تُمنع حرية التنقل داخل المخيمات، ويُمارس التحكم في المساعدات الإنسانية، حيث كشفت تقارير أوروبية متكررة عن اختلاسٍ ممنهجٍ للمساعدات وتحويلها إلى تمويل سياسي وعسكري للجبهة.( تقرير Olaf)
في المقابل، يواصل المغرب منذ عقود تثبيت الاستقرار والتنمية في أقاليمه الجنوبية، عبر مشاريع البنى التحتية الكبرى، والموانئ، والطاقة المتجددة، والنموذج التنموي الجديد الذي أطلقه الملك محمد السادس سنة 2015، مكرسًا بذلك منطق الدولة بدل منطق الميليشيا.
تراجع الأطروحة الانفصالية وسقوط الأقنعة
منذ سنة 2019، عرفت الساحة الدبلوماسية تحولًا نوعيًا: أزيد من 30 دولة فتحت قنصلياتها في العيون والداخلة، في اعتراف عملي بمغربية الصحراء.
كما بدأت العديد من الدول الإفريقية وأمريكية اللاتينية بسحب اعترافها بالكيان الوهمي، في وقتٍ لم تعد فيه أطروحة البوليساريو تحظى إلا بدعمٍ محدود من بعض الأنظمة الإيديولوجية القديمة.
أما الجزائر، فبعد أن أنفقت مليارات الدولارات على قضية خاسرة، وجدت نفسها في عزلة متزايدة، إذ لم تعد ورقة البوليساريو تخدم حتى مصالحها الإقليمية، بل تحولت إلى عبء دبلوماسي وإنساني واقتصادي.
المغرب اليوم: شرعية تاريخية ورؤية استراتيجية
لقد برهن المغرب، عبر التزامه بالقرارات الأممية، ومقاربته التنموية والإنسانية، أنه يتعامل مع النزاع بمنطق الدولة المسؤولة، لا بمنطق الشعارات الثورية.
فالوحدة الترابية ليست مجرد مسألة حدود، بل قضية وجود وهوية، لأنها تمس عمق التاريخ المغربي الممتد من طنجة إلى الكويرة.
أما واقع اليوم، فيؤكد أن المغرب انتصر بالثبات والعقلانية، بينما سقطت الأقنعة عن مشروعٍ وُلد في غرف السياسة الجزائرية قبل أن يتدثر بغطاء التحرر
إذا كان التاريخ يكتب بأيدي الشعوب لا بالشعارات، فإن حقائق الميدان تشهد أن الصحراء مغربية، وأن من حاول تمزيقها سقط في فخ الأوهام التي صنعها.
فالزمن السياسي لا يرحم المشاريع المصطنعة، والشرعية لا تُستورد من الخارج، بل تُبنى بالتاريخ والدم والتنمية والإرادة الوطنية.
وهكذا يبقى المغرب، كما كان، دولة ضاربة الجذور في التاريخ، وممتدة في الجغرافيا، عصيّة على التقسيم مهما تبدّلت الأوراق وتلونت الخطابات منتصرا للمشروعية الوطنية والشرعية الدولية
www.chater-radio.com